منذ بداية ابتكار الإنسان للحلول التقنية – وذلك منذ بداية الحياة – اندمجت الكثير من الصور الحياتية، والأفعال البشرية، في تلك التقنيات، مستهدفة تسهيل الحياة الإنسانية بشكل عام. كما أن التقنية في حد ذاتها ساهمت في تطور الحياة البشرية على وجه الأرض. ودومًا سعى الإنسان إلى ابتكار تلك الحلول، بل وادخال الكثير منها في التعاملات اليومية. ولا يمكن قطعًا حصر الأمثلة التي مثلت مثل هذا الاندماج. والمثال الأبسط الملموس اليوم هو ما صنعته وسائل التواصل وأصبحت طفرة التحول في عالم الاتصالات متمثلًا في الاتصالات الخلوية وشبكة الانترنت. لماذا نتحدث عن هذا الاندماج؟
لأن ما سوف تحمله السطور التالية هو واحد من تلك الاندماجيات العصرية في عالم المال وعالم التقنية. نتحدث اليوم عن واحد من أهم المجالات القادمة بسرعة، والتي تحمل الكثير من ملامح المستقبل. نتحدث عن الفنتك...
الفنتك هي تقنية حديثة ظهرت في السنوات الأخيرة، مصاحبة لعديد من الوسائل التقنية والمجالات المالية، وهي اختصار لكلمة "Financial" وكلمة “Technology"، ليندمجا معًا في مصطلح واحد وهو "Fintech"، وهو يعرف أيضًا باللغة العربية بـ "فنتك"، لأن حتى لحظة كتابة هذه السطور لا يوجد لها تعريب واضح من كلمة واحدة، وأقرب المصطلحات تناسبًا الآن هو "التقنية المالية".
وهي تعني في الأساس دمج المعاملات المالية، على أكثر من نطاق – سواء من ناحية الحجم أو المجال - مع البعد التكنولوجي – الوسائل التقنية، لكي تسهل وتطور المعاملات المالية التقليدية لتصبح بأسرع شكل ممكن، وبأقل تكلفة ممكنة، وفي كثير من الأحيان تختصر الإجراءات الروتينية والقوانين المعتادة.
الهدف الرئيسي من الفنتك هو الاعتماد على التكنولوجيا لتحسين التعاملات المالية التقليدية.
المعاملات التقنية المالية ليست بالشيء الجديد تمامًا، وإنما ينظر الخبراء إليها على أنها وسيلة بدأت مع بزوغ وتطور الشبكة العنكبوتية، خصوصًا في العشرين سنة الأخيرة، فمن أبرز وأبسط الأمثلة عليها هي وسائل الدفع الإليكترونية مثل البنوك الإليكترونية العديدة حول العالم. فإذا مثلًا كنت تستخدم بطاقتك الائتمانية للشراء من على الإنترنت فهذا اجراء فنتك، وإذا كنت أيضًا تستخدم الوسائل الإليكترونية – مثل "باي بال" في تحويل الأموال؛ فهذا يشملها أيضًا. بل تحويل الرواتب الذي يصلك على هاتفك عن طريق مختلف التطبيقات هو أيضا من مميزات التقنية المالية.
كذلك التقنية التي تشهد طفرة رهيبة اليوم في المملكة العربية السعودية وهي الـ NFS – أو الدفع قريب المدى - تعتبر من أبرز ملامح الفنتك.
هل تعلم؟ شهدت تقنية الدفع القريب المدى في المملكة العربية السعودية تطورًا كبيرًا في المعاملات في السنوات الأخيرة، وأصبحت اليوم من دلائل التحول التقني في البلاد.
ولكن هل تقتصر الفنتك على التعاملات العادية الإليكترونية التي نمارسها اليوم؟
لا... فبكل بساطة، ومثل أي مجال، تطورت المعاملات التقنية المالية لتشمل العديد من أوجه مجال المال وعالم الأعمال، ولنري معًا كيف تم ذلك.
سوف نسرد هنا باختصار مُبسط أهم المجالات التي يشملها اليوم عالم الفنتك لكي يواكب العصر أو كما نسميها مجالات التقنية المالية التطبيقية. غنيّ عن الذكر أنه في العام المنصرم 2020؛ تطور أداء التقنية المالية، وصعد صعودًا غير مسبوق في حياة الإنسان العادية، نظرًا لما صاحب العالم من أحداث في جائحة كورونا، ترتب عليه إجراءات التباعد الاجتماعي، وتسهيل المعاملات الإليكترونية ومنها المالية. كما أن سوق الفنتك العالمي أصبح اليوم من أكثر الأسواق تسارعًا في النمو. أ- المعاملات البنكية (الحلول المصرفية): تعتبر بداية الاستثمار في تلك المعاملات في العالم ابان العام 2008 التي شهد الأزمة المالية العالمية، ومنذ ذلك الحين تصاعد نمو ذلك الاستثمار تباعًا، خصوصًا مع تطور التقنيات الحديثة. فالتقنية المالية بكل بساطة قد تغنيك بشكل كامل – أحيانًا – عن زيارة المؤسسات البنكية، ولعل هذا يبرز في استخدام الانترنت البنكي، بمسمياته المختلفة، وهذا أسهم في توفير الوقت والمجهود بشكل كبير للغاية. فعلى سبيل المثال وبالتأكيد قد كان يصيبك الضجر أحيانًا من زيارة البنك وانتظار الدور لإجراء مجرد تحويل نقدي، اليوم صارت هذه العملية ممكنة بكل بساطة من الجوال، أو من جهاز إليكتروني قد يقدمه لك البنك مجانًا! ب- مجال العقارات - أو - ما قد يسمى بإدارة الأصول: ربما قد يكون استخدام الفنتك في مجال إدارة الأصول ليس منتشرًا في عالمنا العربي اليوم، ولكنه قد أصبح له قدم وساق في العالم الغربي- خصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أسهمت التقنية المالية في تسهيل المعاملات الخاصة، خصوصًا الإجراءات المالية المعتادة، ويتوقع أن يصبح هذا الاستخدام ليشمل المعاملات العقارية بشكل متكامل تمامًا في العقدين القادمين. ت- التأمين: سواء على النطاق الفردي أو على نطاق الشركات والحكومات. ومن الواضح تصاعد مؤشر هذا المجال أيضًا في استخدام الفنتك في الآونة الأخيرة. وقد صار هذا المجال يخطو خطى واسعة في الدول الأوربية وأمريكا والصين. ونلاحظ أن هذا المجال تحديدًا يتصاعد مع نمو ثقة المستخدم في التعاملات المالية الإليكترونية. ث- التمويل والإقراض: أنت تريد الحصول على قرض لمشروعك، أو ربما قرض شخصي لأغراض متعددة، أو في بعض الأحيان قد تلجأ الحكومات إلى الاقتراض داخليًا أو خارجيًا. نعلم جميعًا كم يستغرق من الوقت هذا الأمر، وفي بعض الأحيان قد تقابلك العديد من الإجراءات، ومنها ما هو به بعض التعقيد... حسنًا دعني أخبرك أن التقنية المالية تسهل كل هذا، فكما رأينا في المعاملات البنكية أعلاه، نرى أيضًا هذا المجال وقد طاله التطور التقني ليصبح أكثر فعالية، والأهم أسرع مما كان هو عليه. فتخيل معي أن القرض الذي تحتاجه لتمويل شركتك الجديدة قد صار متاحًا في فترات معدودة، بدلًا من الفترات السابقة الطويلة – في بعض الدول صار هذا متاحًا في دقائق! وبهذا لم يعد الأمر مقتصرًا على البنوك فقط، بل صارت هناك العديد من المؤسسات التي تقوم بعمليات التمويل والاقراض. أليس هذا في حد ذاته مسرعًا لعالم الأعمال؟ من الجدير بالذكر أن تعلم أن مؤسسة "ثمار" تعمل في هذا المجال تحديدًا، مع الشركات الصغيرة والمشاريع المتناهية الصغر، ج- أسواق المال: لا يخفى علينا بالطبع أبسط الأمثلة في هذا المجال وهي التطبيق الإليكتروني التي توفره الشركات والبورصات سواء المحلية أو العالمية لمتابعة حركة الأسهم، ولتنفيذ العمليات، لحظة بلحظة. فهذا في حد ذاته إنجاز هام في عالم أسواق المال. وقطعًا هناك تقنيات مستخدمة أكثر تعقيدًا من تلك العمليات، لضمان سهولة وتدفق الإجراءات في ذلك المجال. ح- التحليل المالي والاستثمار: تخيل معي أن دراسة قرار الاستثمار في مجال ما، أو شركة ما كان قد يتم صناعته في شهور... بفضل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات المتطور بواسطة الفنتك؛ صار اليوم في دقائق! فمجرد الحصول على البيانات اللازمة وجمعها، أصبح المستثمر على بعد بضعة نقرات من اتخاذ القرار الصحيح، والذي أصبح أكثر دقة من العنصر البشري. مما أيضًا يساهم بشكل كبير في عملية التخطيط والاستشارات المالية الآلية أو الأوتوماتيكية. كل هذا وغيره الكثير... بل نتوقع أن يمتد هذا التسارع إلى مجالات ما هو أبعد من تسهيل الاستخدام التقليدي. ولكن هل يؤثر قطاع الفنتك على عالم الأعمال؟
كيف يؤثر الفنتك على عالم الأعمال؟ بالطبع! يكفي كل ما ذكرنا سابقًا لكي نعرف أن أهم خمسة عناصر يسهم الفنتك في التأثير عليها هي كالتالي: أ- الوقت: كانت الساعات والأيام تمضي من أجل اجراء عملية مالية واحدة. اليوم صار هذا في دقائق بل واقل من هذا. يسهم هذا في شكل كبير في تسريع عالم الأعمال، وإتاحة المزيد من الوقت للمستثمرين لمهام أخرى لها أهمية كبيرة. ب- المجهود: هو عنصر مرتبط بالوقت بشكل متوازي، وتقريبًا صار يقل إلى الحد الأدنى، وخصوصًا مع تداعيات استخدام الوسائل الإليكترونية مثل الجوال في مثل تلك العمليات والإجراءات المالية. ت- اتخاذ القرار: مما لا شك فيه أن سرعة اتخاذ القرار بشكل مدروس؛ يساهم بشدة في تسريع انشاء الشركات، تفعيل قرارات الاستثمار، بل وتسهيل العمليات المالية بشكل غير مسبوق. وكل هذا يصب في مصلحة المستثمر وبالتالي السوق الذي يعمل فيه. ث- تصاعد نمو تواجد الشركات بشكل كامل على الإنترنت: تحديدًا في الشركات التي تتطلب معاملات مالية، فبواسطة اتباع وتطبيق تكنولوجيا التقنية المالية؛ صارت الشركات اليوم أكثر ثقة في تعزيز تواجدها بشكل متكامل على الانترنت، قطعًا مع اتخاذ الإجراءات اللازمة للحماية، والتي توفرها تلك التقنية الحديثة أيضًا. ج- نمو هائل للتجارة الإليكترونية: وهي واحدة من أهم المميزات. فعلى سبيل المثال في الخمس سنوات الأخيرة تحديدًا، تصاعد النمو في التجارة الإليكترونية في العالم العربي بشكل هائل، ولعل أبرز سمات هذا التحول هو استحواذ شركة "أمازون" العالمية على منصة "سوق" التجارية. بل وبرزت الكثير من هذه الأنشطة سواء على المستوى المتناهي الصغر، المتوسط، أو الشركات التجارية الكبرى.